قطار الفتنة .. هل يدهس مصر؟
بقلم: شريف عبد العزيز
التاريخ يزخر بالكثير من المواقف الصغيرة التي تسببت فيما بعد في أحداث كبيرة وضخمة، فكم من فعلة أو لفظة أو لفتة قد أشعلت نيران حرب دامت عشرات السنين، والحرب العالمية الأولي أشعل فتيلها إقدام شاب صربي علي اغتيال ولي عهد النمسا في سراييفو، فاشتعلت الحرب التي راح ضحيتها عشرين مليون قتيل، وفرنسا قامت باحتلال الجزائر لأكثر من مائة وثلاثين عام بحجة قيام والي الجزائر أحمد باشا بضرب قنصل فرنسا بمنشة ذباب في وجهه، ومباراة كرة قدم بين السلفادور والهندوراس أشعلت حرباً طاحنة بين البلدين، وفي أيام الجاهلية الأولي اندلعت حرب البسوس طيلة أربعين سنة بسبب ناقة، واندلعت حرب داحس والغبراء لنفس الفترة تقريبا بسبب التسابق بين فرسين!
كل هذه الحوادث الصغيرة والتي ترتب بعدها وقوع أحداث ضخمة وحروب طاحنة، لم تكن سوى القشة التي قصمت ظهر البعير، والشرارة التي أطلقت فوهة المدفع، فقبل وقوع تلك الأحداث الصغيرة كانت الأحوال غير مستقرة والعلاقات متوترة، والأوضاع ملتهبة وعلي شفا البركان وعلي وشك الانفجار، والنفوس والقلوب مشحونة بالكره المتبادل، ثم وقعت تلك الحوادث الصغيرة فكانت الكوارث الكبرى والأحداث العظمى، التي راح ضحيتها الملايين وأعقبها الدمار الواسع والانهيار الكامل.
حادثة القطار والدلالات الخطيرة:
فجأة وفي ظل أجواء احتفالية يغلب عليها الاصطناع والسطحية في معالجة كبرى أزمات مصر، وقد توهم الغافلون أن الأزمة علي وشك الحل، إذا بحادث إطلاق النار على قطار سمالوط بمحافظة المنيا، 350 كم جنوب العاصمة المصرية القاهرة، ليلقي بظلاله القاتمة على المشهد السياسي والاجتماعي والأمني في مصر، وقد جاء الحادث الذي أودى بحياة شخص وإصابة 5 من أسرة مسيحية واحدة، ليعيد الأوضاع إلي المربع رقم واحد، وينسف كل الاحتفالات والمظاهرات واللقاءات الفضائية المنادية بالوحدة الوطنية، وتعيد إلى الأذهان ملامح التفجير الإجرامي، الذي استهدف كنيسة القديسين بحي سيدي بشر بالإسكندرية في الساعة الأولى من العام الميلادي الجديد والذي أعقبته أحداث تذمر وشغب نظمها محتجون أقباط ضد ما اعتبروه اضطهاداً وإرهاباً بحقهم.
هذه الحادثة التي قد تبدو صغيرة مقارنة بما سبقها من أحداث كبيرة وخطيرة إلا أنها تكشف وبجلاء عن مستوى الاحتقان الطائفي الذي وصل له الأمر داخل مصر، ورغم التصريحات الرسمية التي حاولت عزل الحادثة عن سياقها الطائفي، باتهام الجاني بالجنون والاختلال العقلي، وهي تهمة ممجوجة ومعروفة لدي جميع الأطراف، رغم ذلك فإن الحادث يحمل قدراً كبيراً من الدلالات الخطيرة والهامة علي صعيد مشكلة الأقباط في مصر، وهي الدلالات التي يجب أن تعيد الحكومة بها النظر في كل الخطوات والإجراءات المزمع اتخاذها من جانب الحكومة لامتصاص غضب الأقباط، ومن أهم هذه الدلالات:
1 - اتساع نطاق المواجهة:
معظم المواجهات التي وقعت بين المسلمين والأقباط والتي صنفت علي أنها مواجهات طائفية، أو حتى بين الأقباط وقوى الأمن كانت تدور في نطاق معين وتتركز حول أماكن تجمع الأقباط، مثل الكنائس والأديرة والتجمعات السكنية، وهي الأماكن التي اتخذت وزارة الداخلية التدابير الأمنية المحكمة حولها؛ حيث ضربت عليها سياجاً مشدداً من الحراسات القوية ضمناً لعدم وقوع حوادث جديدة، على غرار حادثة الإسكندرية المشئومة، ولكن هذه المرة الحادثة وقعت بعيداً تماماً عن الأماكن المعتادة حيث جاء الخطر هذه المرة من حيث لا يحتسب الأمن.
اتساع نطاق المواجهة وانتقالها لأماكن غير مألوفة ولا معتادة يعتبر من المؤشرات الخطيرة عن تفاقم الأزمة الطائفية في مصر، وظهور بؤر جديدة للمواجهة يصعب السيطرة عليها وتداركها قبل أن تقع، كما أن هذا الاتساع يشير من ناحية أخرى لدخول أطراف جديدة في الصراع تزيده تأججاً والتهاباً في أوقات عصيبة تمر بها المنطقة بأسرها وليس مصر وحدها.
2 - عشوائية الحادث:
تضاربت روايات شهود العيان حول الجريمة وترتيب أحداثها، فالرواية الرسمية تشير لجنون الجاني وإطلاقه النار بصورة عشوائية، وروايات الأقباط الذين شاهدوها قالت إنه قد نطق الشهادتين وأطلق النار علي الأقباط، وهي رواية بها كثير من الشكوك لطبيعة الاحتقان الذي عليه الأقباط، والروايات غير الرسمية تشير لوجود استفزاز متعمد من جانب الأقباط الذين رفضوا أن يجلس الشرطي الجاني بجوارهم في عربة القطار، وأنهم قد سبوه وسبوا المسلمين ووزارة الداخلية، فلم تمالك أعصابه ـ وأهل الصعيد المصري مشهورين بالاعتزاز بأنفسهم ودينهم ـ فأطلق عليهم النار.
الذي يجمع كل هذه الروايات جميعها، بغض النظر عن أيها الصادق والكاذب، إنها قد اتفقت على أن الحادثة قد وقعت بصورة عشوائية، وهو أخطر ما في الموضوع، فالحوادث العشوائية هي كابوس أي أجهزة أمنية على مستوى العالم، مهما كانت كفاءة ومهارة هذه الأجهزة، فالحوادث العشوائية يصعب التنبؤ بمكانها وزمانها وأطرافها، بل لا أكون مجازفاً إذا قلت أنه من المستحيل وقف مثل هذه الحوادث أو حتى رصدها، كما أن هذه الحوادث العشوائية تعتبر أقصي درجات ترمومتر التوتر القبطي الواقع في بر مصر، وذروة سنام المواجهات الطائفية، فلقد وصلنا لدرجة من الاحتقان والتوتر أن النفوس والقلوب قد امتلأت لأقصاها، حتى وصل الأمر للصدام المباشر لأتفه الأسباب وفي شتى المجالات وبعفوية وعشوائية مباشرة وفي غاية الخطورة.
3 - غباء التناول الإعلامي:
إن المسكنات الإعلامية والمظاهرات الاستعراضية والحلول الفنية من أغاني وأفلام ومسرحيات الوحدة الوطنية الهزيلة قد أتت بعكس ثمارها، وهو ما حذرنا منه في المقال السابق (خفافيش الأزمات في مصر)، وقبل وقوع الحادث بعدة أيام، فوسائل الإعلام مسئولة مسئولية كبيرة عن خلق مناخ خصب لتأجيج الفتنة الطائفية في البلاد، ففجاجة استجداء الرضا القبطي الذي اتبعته وسائل الإعلام الرسمية والخاصة في مصر، عقب الحادث ألزم المسلمين جميعاً دم ضحايا كنيسة القديسين، ومن ضاقت من تنازلاته وتوسلاته النفوس والقلوب في مصر،
فمعظم المراقبين والمتابعين للمشهد المصري قد حكم علي التناول الإعلامي للكارثة بالغباوة والشطط والتنازل غير المبرر، بعد أن تبارت القنوات الفضائية والأرضية العامة والخاصة في الولولة والاعتذار والانكفاء علي عتبات الأديرة والكنائس، وبالغت في تقبيل الأيدي والأرجل من أجل نيل سماح البابا وعفوه، وإضفاء صفات العظمة والإجلال والقداسة علي أشخاص، كانت المظاهرات العارمة تجتاح البلاد طولاً وعرضاً، تهتف ضدهم وتنادي بعزلهم ومحاكمتهم منذ عدة أسابيع قليلة، بسبب جرائمهم ضد المسلمين والبلاد، وأطروحات الحل التي تناولتها تلك القنوات اتسمت بالشطط والخروج عن ثوابت العقيدة، والتنازل عن المسلمات من أجل عيون البابا وأتباعه، وتوالت جرعات الإعلام المكثفة من أجل تدارك آثار الحادث ولكن الجرعات كانت مسمومة ومخربة لكثير مما اعتاد عليه الناس ودرجوا عليه، وأشعرتهم بالخزي والعار والمسئولية عن جريمة لم يرتكبها، وقد قابل الأقباط هذه التنازلات والتراجعات بمزيد من التطرف والتعصب والاستكبار والصلف، وقد أغرتهم كثرة الاعتذارات، فشتموا الجميع من أكبر الرموز لأدناها، من رئيس البلاد لفرد الأمن الذي يحرس كنيستهم، وهموا بالنيل من رموز الإسلام الرسميين مثل شيخ الأزهر ومفتى الجمهورية، وأقدموا على أفعال لم تكن تراودهم حتى في أحلامهم، وهذا الصلف والتطرف والتعصب قد أغضب الكثيرين ومنهم هذا الجاني الذي لم يقبل علي نفسه أن يسب دينه وبلده وعمله فأطلق النار مباشرة ودونما تفكير - علي فرض صحة الرواية غير الرسمية للحادثة - وكل هذه التداعيات الخطيرة من آثار التناول الإعلامي الفاسد لأحداث كارثة الإسكندرية، ولو كان الجاني هذه المرة من المسلمين والضحايا من الأقباط، فمن يضمن ألا يكون العكس في المرة القادمة، بعد أن تعالت نبرات التخوين المتبادلة بين الجانبين، وأصبحت الأجواء مشحونة وعلي وشك الانفجار.
4 - فشل الحلول الأمنية:
مع كل نازلة تنزل ببلد عربي، مصر أو غيرها، فإن الأنظمة الحاكمة تفكر أولاً في الحل الأمني للمشكلة، والحل الأمني يتصف بالسرعة والحسم في كثير من الأحيان ويؤتي ثماره بصورة عاجلة ولكنه لا يقضي أبداً على المشكلة أنما يؤجلها ويؤخرها لأجل مسمى تكون عنده المشكلة قد تفاقمت وتشعبت وخرجت عن السيطرة، ولعل ما جرى في تونس الأيام الفائتة خير شاهد على فشل الحلول الأمنية، مما أجبر الرئيس التونسي زين العابدين المشهور بصلفه ورفضه لأي طلبات للشعب التونسي مهما كانت الضغوط، اضطر في نادرة غير مسبوقة لعزل وزير الداخلية لامتصاص غضب الشارع التونسي المتفجر.
الحل الأمني لمشكلة التوتر الطائفي الواقع في بر مصر ثبت فشله وبان عجزه أمام تصاعد وتيرة الغضب القبطي والمظاهرات الجريئة التي انتهكت كل الخطوط الحمراء، والفشل الأمني في معالجة الملف القبطي يعود في الأساس لكون المشكلة ذات أبعاد اجتماعية وثقافية وسياسية وبيئية متشابكة، والبعد الأمني فيها ربما كان أقل الأبعاد تأثيراً، اللهم إن صح الكلام عن قيام الأمن بتسليم المسلمات الجدد للكنيسة مثل وفاء قسطنطين وكاميليا شحاتة، لذلك فالاكتفاء بالحل الأمني للمشكلة، تمييع للقضية وقد كشف عن أوجه قصور بالغة في التعاطي الجاد والحقيقي مع الحلول العملية للمشكلة، فماذا سيفعل الأمن مع التهديدات المتبادلة بين طرفي النزاع، وإن كان الأمن قد تعاطي بجدية مع أي تهديد أو إنذار خطر بعد صفعة الإسكندرية، ووضع حراسات مكثفة في الأماكن التي يظن أنها ستكون عرضة للتهديد، فماذا سيفعل إزاء مثل هذه الحوادث العشوائية؟، وهل سيضع علي كل قبطي حراسة؟ أم سيعتقل وينكل بكل من يشتبه فيه ولو بأدنى شبهة؟ مثلما حدث مع الشاب السلفي البريء "سيد بلال" رحمه الله الذي ذهب ضحية جبروت وطغيان الحلول الأمنية، كما أن الأقباط أنفسهم اليوم يرون أن الأمن هو المسئول الأول عن الفتنة الطائفية في مصر بسبب حلوله وأساليبه العنيفة، وقد تصاعدت الأصوات المنادية بإقالة وزير الداخلية بسبب ذلك، وبالتالي فأن مسألة فشل الحل الأمني للأزمة من الأمور المجمع عليها الآن في بر مصر من كل أطراف المشكلة.
والخلاصة أن هذه الحادثة العشوائية الخطيرة لن تكون الأخيرة وستشهد البلاد غيرها، وسيتم تبادل الأدوار خلالها فالجاني اليوم سيكون الضحية غداً، وقطار الفتنة يقترب بسرعة من البلاد، ويوشك أن يدهم الجميع وعندها سيندم الجميع، ونشهد ما سيكون وقتها باطن الأرض أولي من ظاهرها، الفتنة التي كانت نائمة وأوشكت علي الاستيقاظ، وللأسف بكل نشاط وقوة.
بقلم: شريف عبد العزيز
التاريخ يزخر بالكثير من المواقف الصغيرة التي تسببت فيما بعد في أحداث كبيرة وضخمة، فكم من فعلة أو لفظة أو لفتة قد أشعلت نيران حرب دامت عشرات السنين، والحرب العالمية الأولي أشعل فتيلها إقدام شاب صربي علي اغتيال ولي عهد النمسا في سراييفو، فاشتعلت الحرب التي راح ضحيتها عشرين مليون قتيل، وفرنسا قامت باحتلال الجزائر لأكثر من مائة وثلاثين عام بحجة قيام والي الجزائر أحمد باشا بضرب قنصل فرنسا بمنشة ذباب في وجهه، ومباراة كرة قدم بين السلفادور والهندوراس أشعلت حرباً طاحنة بين البلدين، وفي أيام الجاهلية الأولي اندلعت حرب البسوس طيلة أربعين سنة بسبب ناقة، واندلعت حرب داحس والغبراء لنفس الفترة تقريبا بسبب التسابق بين فرسين!
كل هذه الحوادث الصغيرة والتي ترتب بعدها وقوع أحداث ضخمة وحروب طاحنة، لم تكن سوى القشة التي قصمت ظهر البعير، والشرارة التي أطلقت فوهة المدفع، فقبل وقوع تلك الأحداث الصغيرة كانت الأحوال غير مستقرة والعلاقات متوترة، والأوضاع ملتهبة وعلي شفا البركان وعلي وشك الانفجار، والنفوس والقلوب مشحونة بالكره المتبادل، ثم وقعت تلك الحوادث الصغيرة فكانت الكوارث الكبرى والأحداث العظمى، التي راح ضحيتها الملايين وأعقبها الدمار الواسع والانهيار الكامل.
حادثة القطار والدلالات الخطيرة:
فجأة وفي ظل أجواء احتفالية يغلب عليها الاصطناع والسطحية في معالجة كبرى أزمات مصر، وقد توهم الغافلون أن الأزمة علي وشك الحل، إذا بحادث إطلاق النار على قطار سمالوط بمحافظة المنيا، 350 كم جنوب العاصمة المصرية القاهرة، ليلقي بظلاله القاتمة على المشهد السياسي والاجتماعي والأمني في مصر، وقد جاء الحادث الذي أودى بحياة شخص وإصابة 5 من أسرة مسيحية واحدة، ليعيد الأوضاع إلي المربع رقم واحد، وينسف كل الاحتفالات والمظاهرات واللقاءات الفضائية المنادية بالوحدة الوطنية، وتعيد إلى الأذهان ملامح التفجير الإجرامي، الذي استهدف كنيسة القديسين بحي سيدي بشر بالإسكندرية في الساعة الأولى من العام الميلادي الجديد والذي أعقبته أحداث تذمر وشغب نظمها محتجون أقباط ضد ما اعتبروه اضطهاداً وإرهاباً بحقهم.
هذه الحادثة التي قد تبدو صغيرة مقارنة بما سبقها من أحداث كبيرة وخطيرة إلا أنها تكشف وبجلاء عن مستوى الاحتقان الطائفي الذي وصل له الأمر داخل مصر، ورغم التصريحات الرسمية التي حاولت عزل الحادثة عن سياقها الطائفي، باتهام الجاني بالجنون والاختلال العقلي، وهي تهمة ممجوجة ومعروفة لدي جميع الأطراف، رغم ذلك فإن الحادث يحمل قدراً كبيراً من الدلالات الخطيرة والهامة علي صعيد مشكلة الأقباط في مصر، وهي الدلالات التي يجب أن تعيد الحكومة بها النظر في كل الخطوات والإجراءات المزمع اتخاذها من جانب الحكومة لامتصاص غضب الأقباط، ومن أهم هذه الدلالات:
1 - اتساع نطاق المواجهة:
معظم المواجهات التي وقعت بين المسلمين والأقباط والتي صنفت علي أنها مواجهات طائفية، أو حتى بين الأقباط وقوى الأمن كانت تدور في نطاق معين وتتركز حول أماكن تجمع الأقباط، مثل الكنائس والأديرة والتجمعات السكنية، وهي الأماكن التي اتخذت وزارة الداخلية التدابير الأمنية المحكمة حولها؛ حيث ضربت عليها سياجاً مشدداً من الحراسات القوية ضمناً لعدم وقوع حوادث جديدة، على غرار حادثة الإسكندرية المشئومة، ولكن هذه المرة الحادثة وقعت بعيداً تماماً عن الأماكن المعتادة حيث جاء الخطر هذه المرة من حيث لا يحتسب الأمن.
اتساع نطاق المواجهة وانتقالها لأماكن غير مألوفة ولا معتادة يعتبر من المؤشرات الخطيرة عن تفاقم الأزمة الطائفية في مصر، وظهور بؤر جديدة للمواجهة يصعب السيطرة عليها وتداركها قبل أن تقع، كما أن هذا الاتساع يشير من ناحية أخرى لدخول أطراف جديدة في الصراع تزيده تأججاً والتهاباً في أوقات عصيبة تمر بها المنطقة بأسرها وليس مصر وحدها.
2 - عشوائية الحادث:
تضاربت روايات شهود العيان حول الجريمة وترتيب أحداثها، فالرواية الرسمية تشير لجنون الجاني وإطلاقه النار بصورة عشوائية، وروايات الأقباط الذين شاهدوها قالت إنه قد نطق الشهادتين وأطلق النار علي الأقباط، وهي رواية بها كثير من الشكوك لطبيعة الاحتقان الذي عليه الأقباط، والروايات غير الرسمية تشير لوجود استفزاز متعمد من جانب الأقباط الذين رفضوا أن يجلس الشرطي الجاني بجوارهم في عربة القطار، وأنهم قد سبوه وسبوا المسلمين ووزارة الداخلية، فلم تمالك أعصابه ـ وأهل الصعيد المصري مشهورين بالاعتزاز بأنفسهم ودينهم ـ فأطلق عليهم النار.
الذي يجمع كل هذه الروايات جميعها، بغض النظر عن أيها الصادق والكاذب، إنها قد اتفقت على أن الحادثة قد وقعت بصورة عشوائية، وهو أخطر ما في الموضوع، فالحوادث العشوائية هي كابوس أي أجهزة أمنية على مستوى العالم، مهما كانت كفاءة ومهارة هذه الأجهزة، فالحوادث العشوائية يصعب التنبؤ بمكانها وزمانها وأطرافها، بل لا أكون مجازفاً إذا قلت أنه من المستحيل وقف مثل هذه الحوادث أو حتى رصدها، كما أن هذه الحوادث العشوائية تعتبر أقصي درجات ترمومتر التوتر القبطي الواقع في بر مصر، وذروة سنام المواجهات الطائفية، فلقد وصلنا لدرجة من الاحتقان والتوتر أن النفوس والقلوب قد امتلأت لأقصاها، حتى وصل الأمر للصدام المباشر لأتفه الأسباب وفي شتى المجالات وبعفوية وعشوائية مباشرة وفي غاية الخطورة.
3 - غباء التناول الإعلامي:
إن المسكنات الإعلامية والمظاهرات الاستعراضية والحلول الفنية من أغاني وأفلام ومسرحيات الوحدة الوطنية الهزيلة قد أتت بعكس ثمارها، وهو ما حذرنا منه في المقال السابق (خفافيش الأزمات في مصر)، وقبل وقوع الحادث بعدة أيام، فوسائل الإعلام مسئولة مسئولية كبيرة عن خلق مناخ خصب لتأجيج الفتنة الطائفية في البلاد، ففجاجة استجداء الرضا القبطي الذي اتبعته وسائل الإعلام الرسمية والخاصة في مصر، عقب الحادث ألزم المسلمين جميعاً دم ضحايا كنيسة القديسين، ومن ضاقت من تنازلاته وتوسلاته النفوس والقلوب في مصر،
فمعظم المراقبين والمتابعين للمشهد المصري قد حكم علي التناول الإعلامي للكارثة بالغباوة والشطط والتنازل غير المبرر، بعد أن تبارت القنوات الفضائية والأرضية العامة والخاصة في الولولة والاعتذار والانكفاء علي عتبات الأديرة والكنائس، وبالغت في تقبيل الأيدي والأرجل من أجل نيل سماح البابا وعفوه، وإضفاء صفات العظمة والإجلال والقداسة علي أشخاص، كانت المظاهرات العارمة تجتاح البلاد طولاً وعرضاً، تهتف ضدهم وتنادي بعزلهم ومحاكمتهم منذ عدة أسابيع قليلة، بسبب جرائمهم ضد المسلمين والبلاد، وأطروحات الحل التي تناولتها تلك القنوات اتسمت بالشطط والخروج عن ثوابت العقيدة، والتنازل عن المسلمات من أجل عيون البابا وأتباعه، وتوالت جرعات الإعلام المكثفة من أجل تدارك آثار الحادث ولكن الجرعات كانت مسمومة ومخربة لكثير مما اعتاد عليه الناس ودرجوا عليه، وأشعرتهم بالخزي والعار والمسئولية عن جريمة لم يرتكبها، وقد قابل الأقباط هذه التنازلات والتراجعات بمزيد من التطرف والتعصب والاستكبار والصلف، وقد أغرتهم كثرة الاعتذارات، فشتموا الجميع من أكبر الرموز لأدناها، من رئيس البلاد لفرد الأمن الذي يحرس كنيستهم، وهموا بالنيل من رموز الإسلام الرسميين مثل شيخ الأزهر ومفتى الجمهورية، وأقدموا على أفعال لم تكن تراودهم حتى في أحلامهم، وهذا الصلف والتطرف والتعصب قد أغضب الكثيرين ومنهم هذا الجاني الذي لم يقبل علي نفسه أن يسب دينه وبلده وعمله فأطلق النار مباشرة ودونما تفكير - علي فرض صحة الرواية غير الرسمية للحادثة - وكل هذه التداعيات الخطيرة من آثار التناول الإعلامي الفاسد لأحداث كارثة الإسكندرية، ولو كان الجاني هذه المرة من المسلمين والضحايا من الأقباط، فمن يضمن ألا يكون العكس في المرة القادمة، بعد أن تعالت نبرات التخوين المتبادلة بين الجانبين، وأصبحت الأجواء مشحونة وعلي وشك الانفجار.
4 - فشل الحلول الأمنية:
مع كل نازلة تنزل ببلد عربي، مصر أو غيرها، فإن الأنظمة الحاكمة تفكر أولاً في الحل الأمني للمشكلة، والحل الأمني يتصف بالسرعة والحسم في كثير من الأحيان ويؤتي ثماره بصورة عاجلة ولكنه لا يقضي أبداً على المشكلة أنما يؤجلها ويؤخرها لأجل مسمى تكون عنده المشكلة قد تفاقمت وتشعبت وخرجت عن السيطرة، ولعل ما جرى في تونس الأيام الفائتة خير شاهد على فشل الحلول الأمنية، مما أجبر الرئيس التونسي زين العابدين المشهور بصلفه ورفضه لأي طلبات للشعب التونسي مهما كانت الضغوط، اضطر في نادرة غير مسبوقة لعزل وزير الداخلية لامتصاص غضب الشارع التونسي المتفجر.
الحل الأمني لمشكلة التوتر الطائفي الواقع في بر مصر ثبت فشله وبان عجزه أمام تصاعد وتيرة الغضب القبطي والمظاهرات الجريئة التي انتهكت كل الخطوط الحمراء، والفشل الأمني في معالجة الملف القبطي يعود في الأساس لكون المشكلة ذات أبعاد اجتماعية وثقافية وسياسية وبيئية متشابكة، والبعد الأمني فيها ربما كان أقل الأبعاد تأثيراً، اللهم إن صح الكلام عن قيام الأمن بتسليم المسلمات الجدد للكنيسة مثل وفاء قسطنطين وكاميليا شحاتة، لذلك فالاكتفاء بالحل الأمني للمشكلة، تمييع للقضية وقد كشف عن أوجه قصور بالغة في التعاطي الجاد والحقيقي مع الحلول العملية للمشكلة، فماذا سيفعل الأمن مع التهديدات المتبادلة بين طرفي النزاع، وإن كان الأمن قد تعاطي بجدية مع أي تهديد أو إنذار خطر بعد صفعة الإسكندرية، ووضع حراسات مكثفة في الأماكن التي يظن أنها ستكون عرضة للتهديد، فماذا سيفعل إزاء مثل هذه الحوادث العشوائية؟، وهل سيضع علي كل قبطي حراسة؟ أم سيعتقل وينكل بكل من يشتبه فيه ولو بأدنى شبهة؟ مثلما حدث مع الشاب السلفي البريء "سيد بلال" رحمه الله الذي ذهب ضحية جبروت وطغيان الحلول الأمنية، كما أن الأقباط أنفسهم اليوم يرون أن الأمن هو المسئول الأول عن الفتنة الطائفية في مصر بسبب حلوله وأساليبه العنيفة، وقد تصاعدت الأصوات المنادية بإقالة وزير الداخلية بسبب ذلك، وبالتالي فأن مسألة فشل الحل الأمني للأزمة من الأمور المجمع عليها الآن في بر مصر من كل أطراف المشكلة.
والخلاصة أن هذه الحادثة العشوائية الخطيرة لن تكون الأخيرة وستشهد البلاد غيرها، وسيتم تبادل الأدوار خلالها فالجاني اليوم سيكون الضحية غداً، وقطار الفتنة يقترب بسرعة من البلاد، ويوشك أن يدهم الجميع وعندها سيندم الجميع، ونشهد ما سيكون وقتها باطن الأرض أولي من ظاهرها، الفتنة التي كانت نائمة وأوشكت علي الاستيقاظ، وللأسف بكل نشاط وقوة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق